کد مطلب:370250 یکشنبه 20 خرداد 1397 آمار بازدید:627

الفصل الثالث: فی المواجهة












الصفحة 170












الصفحة 171


الجیشان:


سیأتی أن عدد «الخوارج» الذین قتلوا فی النهروان كان یتراوح ما بین الألف وخمس مئة قتیل، وعشرة آلاف. ورقم الأربعة آلاف هو المرجح من بین تلك الأقوال لدى عدد من المؤرخین.


وإذا كان الذین قتلوا هم جمیع جیشهم، ولم یفلت منهم إلا أقل من عشرة، فانه یصبح واضحاً أن هذا الرقم بالذات هو عدد جیشهم فی واقعة النهروان.


وأما بالنسبة لعدد جیش علی (علیه السلام)، فإنه كان قلیلاً فقد كان معه (علیه السلام) جمعیة یسیرة، لأنه إنما جاء لیردهم بالكلام حسبما قاله ابن حبان(1)..


وأما قول بعضهم إن عدد جیشه (علیه السلام) كان اثنی عشر ألفاً(2)، فهو بعید.


ویؤید قول ابن حبان: أن ابن اعثم یذكر: أن أمیر المؤمنین (علیه السلام) قد بذل محاولات جادة لجمع الناس لحرب «الخوارج»، وخطب


____________



(1) الثقات ج2 ص296.


(2) أنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص271..













الصفحة 172


الناس لأجل ذلك عدة مرات.


وبعد خطبته الثالثة: أجابه الناس سراعاً، فاجتمع إلیه أربعة آلاف رجل، أو یزیدون، قال: فخرج بهم من الكوفة وبین یدیه عدی بن حاتم الطائی، یرفع صوته، وهو یقول:


 









نسیر إذا ما كاع قوم وبلدوا برایات صدق كالنسور الخوافق(1)



ویشهد لذلك أیضاً، ما عرفناه، عن أهل العراق، من أنهم بعد حرب صفین كانوا شدیدی التخاذل عن الحرب، وأن علیاً (علیه السلام) قد لاقى الأمرین فی استنفارهم لحرب معاویة، ولم یتمكن من ذلك حتى استشهد صلوات الله وسلامه علیه، والغصة فی قلبه والشكوى منهم على لسانه.


علی (علیه السلام) والمنجم:


وروى ابن دیزیل قال: عزم علی (علیه السلام) على الخروج من الكوفة إلى الحروریة. وكان فی أصحابه منجّم، فقال له: یا أمیر المؤمنین، لا تسر فی هذه الساعة، وسر على ثلاث ساعات مضین من النهار، فإنك إن سرت فی هذه الساعة أصابك وأصحابك أذى، وضر شدید، وإن سرت فی الساعة التی أمرتك بها ظفرت وظهرت، وأصبت ما طلبت.


فقال (علیه السلام): أتدری ما فی بطن فرسی هذه، أذكر هو أم أنثى؟


قال: إن حسبت علمت.


فقال علی (علیه السلام): من صدقك بهذا فقد كذب القرآن، قال الله تعالى:


____________



(1) الفتوح لابن اعثم ج4 ص105..













الصفحة 173


(إن الله عنده علم الساعة، وینزل الغیث، ویعلم ما فی الأرحام)، الآیة.


ثم قال (علیه السلام):


إن محمداً صلى الله علیه ما كان یدعی علم ما ادّعیت علمه، اتزعم أنك تهدی إلى الساعة التی یصیب النفع من سار فیها؟ وتصرف عن الساعة التی یحیق السوء بمن سار فیها؛ فمن صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل ذكره فی صرف المكروه عنه.


وینبغی للموقن بأمرك أن یولیك الحمد دون الله جل جلاله؛ لأنك بزعمك هدیته إلى الساعة التی یصیب النفع من سار فیها، وصرفته عن الساعة التی یحیق السوء بمن سار فیها. فمن آمن بك فی هذا لم آمن علیه أن یكون كمن اتخذ من دون الله ضداً ونداً.


اللهم لا طیر إلا طیرك، ولا ضر إلا ضرك، ولا إله غیرك.


ثم قال: نخالف ونسیر فی الساعة التی نهیتنا عنها.


ثم أقبل على الناس فقال:


أیها الناس، إیاكم والتعلم للنجوم إلا ما یهتدى به فی ظلمات البر والبحر، إنما المنجم كالكاهن، والكاهن كالكافر، والكافر فی النار.


أما والله لئن بلغنی أنك تعمل بالنجوم لأخلدنك السجن أبداً ما بقیت، ولأحرمنك العطاء ما كان لی من سلطان.


ثم سار فی الساعة التی نهاه عنها المنجم، فظفر بأهل النهر، وظهر علیهم.


ثم قال: لو سرنا فی الساعة التی أمرنا بها المنجم لقال الناس: سار فی الساعة التی أمر بها المنجم، فظفر وظهر. أما أنه ما كان لمحمد












الصفحة 174


صلى الله علیه منجم ولا لنا من بعده، حتى فتح الله علینا بلاد كسرى وقیصر. أیها الناس توكلوا على الله، وثقوا به فإنه یكفی ممن سواه(1).


وإن هذا البیان المسهب منه (علیه السلام) یغنی عن أی بیان، بل هو أغنى بیان وأوفاه فكل لسان سواه عییّ، وكل من یدعی المعرفة عنده غبی، فصلوات الله وسلامه علیه وعلى الأئمة من ولده الطاهرین.


التحدی الفاشل للیقین بالغیب:


قد ذكرت النصوص: أن الحروریة جاءوا فكانوا أولاً من وراء النهر، فأخبروا علیاً بذلك. فقال: والله، لایقتل الیوم رجل من وراء النهر.


فقالوا له: قد نزلوا: فأعاد (علیه السلام) قوله هذا.. ثم أعادوا قولهم، فكرر (علیه السلام) مقالته.


وقالت الحروریة، بعضهم لبعض: یرى علی أنا نخافه؟!.. فأجازوا أی عبروا النهر.


فقال (علیه السلام) لأصحابه: «لا تحركوهم حتى یحدثوا».


ثم تذكر الروایة: أنهم ذهبوا إلى منزل ابن خباب، وكان على شط الفرات، فأخرجوه.. ثم قتلوه وشقوا عما فی بطن أم ولده.


فطالبهم (علیهم السلام) بقاتله، فقالوا: كلنا قتله.. فأعادوا علیهم ذلك ثلاثاً، فسمعوا نفس الإجابة. فقتلوهم جمیعاً، ثم طلب منهم أن یطلبوا المخدج فی القتلى، فقالوا: ما وجدنا، فقال: والله ما كذبت ولا كذبت.. ثم


____________



(1) شرح النهج للمعتزلی ج2 ص270.













الصفحة 175


تذكر الروایة أنه (علیه السلام) بحث بین القتلى حتى وجده فی حفرة فیها قتلى كثیر الخ..(1).


فترى انه (علیه السلام) لا یقبل ما أخبروه به من أنهم قد عبروا النهر، ویقسم أنه لا یقتل رجل من وراء النهر.


بل إنه یحدد موقع قتلهم بصورة دقیقة وواضحة، بعد أن أقسم له من أخبره ثلاث مرات: أنه رآهم قد عبروا النهر، لما بلغهم وصوله (علیه السلام) خوفاً من قتاله. فلا یقبل منه، ویقسم على عدم صحة ما أخبره به، وذلك فی النص التالی:


وذكر المدائنی قال: لما خرج علی (علیه السلام) إلى أهل النهر أقبل رجل من أصحابه ممن كان على مقدمته یركض، حتى انتهى إلى علی (علیه السلام)، فقال:


البشرى یا أمیر المؤمنین.


قال: ما بشراك؟


قال: إن القوم عبروا النهر لما بلغهم وصولك؛ فأبشر؛ فقد منحك الله أكتافهم.


فقال له: الله! أنت رأیتهم عبروا؟!


قال: نعم.


فأحلفه ثلاث مرات، فی كلها یقول: نعم.


فقال علی (علیه السلام): والله، ما عبروه، ولن یعبروه، وإن مصارعهم لدون النطفة. والذی فلق الحبة، وبرأ النسمة لن یبلغوا الأثلاث، ولا قصر


____________



(1) راجع: تاریخ بغداد ج1 ص205ز206 وراجع ج2 ص290 و291 وأمثال هذا الحدیث مذكور فی عشرات المصادر التی تتحدث عن حرب النهروان..













الصفحة 176


بوازن حتى یقتلهم الله، وقد خاب من افترى.


قال: ثم أقبل فارس آخر یركض، فقال كقول الأول، فلم یكترث علی (علیه السلام) فجال فی متن فرسه.


قال: فیقول شاب من الناس: والله لأكونن قریباً منه، فإن كانوا عبروا النهر لأجعلن سنان هذا الرمح فی عینه. أیدعی علم الغیب؟!


فلما انتهى (علیه السلام) إلى النهر وجد القوم قد كسروا جفون سیوفهم، وعرقبوا خیولهم، وجثوا على ركبهم، وحكموا تحكیمة واحدة، بصوت عظیم، له زجل.


فنزل ذلك الشاب: فقال: یا أمیر المؤمنین، إنی كنت شككت فیك آنفاً، وإنی تائب إلى الله وإلیك!


فقال علی (علیه السلام): إن الله هو الذی یغفر الذنوب، فاستغفره(1).


إذا عرف السبب بطل العجب:


ویوضح بعضهم السبب فی الاعتقاد بأنهم قد عبروا النهر على النحو التالی: «إن الخوارج قصدوا جسر النهر، وكانوا غربه، فقال لعلی أصحابه: إنهم قد عبروا النهر.. فقال: لن یعبروا.


فأرسلوا طلیعة، فعاد وأخبرهم انهم عبروا النهر.


وكان بینهم وبینه عطفة من النهر، فلخوف الطلیعة منهم لم یقربهم؛


____________



(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج2 ص272 عن المدائنی فی كتاب الخوارج. ومناقب علی بن أبی طالب لابن المغازلی ص406 و407 وراجع الفتوح لابن اعثم ج4 ص120..













الصفحة 177


فعاد فقال: إنهم قد عبروا النهر.


فقال علی: والله ما عبروه، وإن مصارعهم لدون الجسر، والله، لا یقتل منكم عشرة، ولا یسلم منهم عشرة.


فتقدم علی إلى «الخوارج»، فرآهم عند الجسر لم یعبروه.


وكان الناس قد شكوا فی قوله، وارتاب به بعضهم. فلما رأوا «الخوارج» لم یعبروا كبروا، وأخبروا علیاً بحالهم، فقال: والله، ما كذبت ولا كذبت الخ..»(1).


ومن كل هذا یتجلى لهم یقین علی (علیه السلام) بالغیب الذی یخبرهم به، حتى إنه لا یتزعزع حتى مع تعدد المخبرین بخلافه، وحتى مع حلفهم ثلاث مرات على صحة ما یخبرون به.


وذلك لأنه (علیه السلام) یرى الأمور على حقیقتها، إلى درجة أنه لو كشف له الغطاء، ما ازداد یقیناً.


احتجاجات علی (علیه السلام) وتراجعات «الخوارج»:


لقد كانت احتجاجات علی (علیه السلام) وأصحابه على «الخوارج» كثیرة، وكانت لها آثارها الإیجابیة الكبیرة.. حیث رجع منهم الألوف التی قد تصل إلى العشرین ألفاً حسب بعض النصوص.


وقد ذكرنا شطراً من تلك الاحتجاجات فی فصل مستقل غیر اننا نشیر هنا إلى بعض ما یكشف لنا حجم تأثیر تلك الاحتجاجات، وذلك من خلال تراجع الألوف من «الخوارج» بسبب تلك الاحتجاجات، فنقول:


إنهم یروون: أنه بسبب احتجاجات ابن عباس على الخوارج «رجع


____________



(1) الكامل فی التاریخ ج3 ص345.













الصفحة 178


منهم عشرون ألفاً، وبقی منهم اربعة آلاف فقتلوا»(1).


وقال ابن اعثم، وابن شهر آشوب، والإربلی: «استأمن إلیه منهم ثمانیة آلاف، وبقی على حربه آربعة آلاف»(2).


وقیل: «بل استأمن إلیه منهم ألفان»(3).


وقال أبو وائل: «خرجنا أربعة آلاف فخرج إلینا علی، فما زال یكلمنا حتى رجع منا ألفان»(4).


وذكر ابن عساكر: أنه قد نتج عن الاحتجاج علیهم أن «رجع ثلثهم، وانصرف ثلثهم، وقتل سائرهم على ضلالة»(5).


غیر أن البعض یذكر: ان احتجاج ابن عباس علیهم فی حروراء لم یؤثر شیئاً، وطلبوا علیاً لیكلمهم، فلما كلمهم علی (علیه السلام) رجع ابن الكواء، وعشرة من أصحابه(6)، وأقام الباقون على غیهم. وأمَّروا علیهم الراسبی، وعسكروا بالنهروان، فسار إلیهم علی (علیه السلام) حتى بقی على فرسخین منهم. وكاتبهم، وراسلهم، فلم یرتدعوا.


فأرسل إلیهم ابن عباس، فكلمهم وكان علی (علیه السلام) وراءه یسمع ما


____________



(1) مجمع الزوائد ج6 ص241 وقال: رواه الطبری، وأحمد بعضه، ورجالهما رجال للصحیح.


(2) الفتوح ج4 ص125 والمناقب لابن شهر آشوب ج3 ص189، وكشف الغمة ج1 ص365 و367.


(3) مصادر هذا النص كثیرة فراجع: الخصائص للنسائی ص147، وشرح النهج للمعتزلی ج4 ص99 وستأتی مصادر أخرى إن شاء الله تعالى..


(4) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج4 ص99..


(5) ترجمة الإمام علی من تاریخ دمشق [بتحقیق المحمودی] ج3 ص152..


(6) راجع: كشف الغمة للأربلی ج1 ص264 و265.













الصفحة 179


یقولون.


فتقدم علی (علیه السلام) إلیهم، فكلموه، وذكروا ما نقموه علیه، فأجابهم عنها، فاستأمن ثمانیة آلاف.


فأمرهم بأن یعتزلوه فی ذلك الوقت، ثم حارب الباقین، فقتلهم. وكانوا أربعة آلاف(1).


ولعل بعض المؤرخین یتحدث عن مرحلة وواقعة، ویتحدث غیره عن مرحلة وواقعة أخرى، فإن الألفین إنما رجعوا حین كلمهم ابن عباس. ویبدو أن ذلك كان بتوجیه وتلقین مباشر حیناً، وبمشاركة حیناً آخر من أمیر المؤمنین (علیه السلام) نفسه.


ونسجل ملاحظة هنا: وهی أن من یراجع احتجاجات ابن عباس یجد أنها قویة وحاسمة، وقد نص عدد من المؤرخین على ان ألفین على الأقل قد رجعوا نتیجة لتلك الاحتجاجات فلا یصح قولهم: إن احتجاجاته لم تؤثر شیئاً.


ویقال: إنه بعد أن احتج علیهم ابن عباس: «رجع عبد الله بن الكواء فی ألفی رجل، وبقی الباقون، وأمروا علیهم عبد الله بن وهب الراسبی، ثم سمّوا الراسبیة. ثم أخذوا فی الفساد؛ فقال علی (علیه السلام): دعوهم.


حتى إذا أخذوا الأموال وسفكوا الدماء، ومروا بالمدائن ولقیهم عبد الله بن خباب..».


إلى أن یقول النص: «فقتلوه، وبقروا عن بطن امرأته، وقتلوا نسوة، وولداناً؛ فخرج إلیهم، وقال:


إدفعوا إلینا قتلة إخواننا، ونحن تاركوكم.


____________



(1) راجع: كشف الغمة ج1 ص265 و267.













الصفحة 180


فأبوا علیه، وثاروا به؛ فتهیأ علی (علیه السلام) لقتالهم، ودعا المسلمین إلیهم؛ فقتلهم بالنهروان»(1).


بهذا وعظهم (علیه السلام):


قد عرفنا أنه (علیه السلام) قد خطب «الخوارج» بخطب ذات عدد، وأنه قد ردهم بكلامه الحلو فی غیر موطن.. مما یعنی أن تجمع النهروان لم یكن هو الأول، ولا كان هو الأخیر فی سلسلة بغیهم على إمامهم، وجمعهم الجموع لحربه (علیه السلام).


ونورد هنا فقرة واحدة مما خطبهم (علیه السلام) یوم النهروان، فقد قال:


«نحن أهل بیت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وعنصر الرحمة، ومعدن العلم والحكمة، نحن أفق الحجاز، بنا یلحق البطیء، وإلینا یرجع التائب»(2).


ویلاحظ: أن هذه هی نفس كلمات الإمام الحسین (علیه السلام)، التی واجه بها الولید بن عتبة، حین طلب منه البیعة لیزید لعنه الله. ثم یلاحظ: أن هذه الصفات تناقض تماماً صفات «الخوارج»، حسبما سیأتی بعض التوضیح له فی فصول هذا الكتاب..


آخر ما وعظهم به علی (علیه السلام):


«لما استوى الصفان بالنهروان تقدم أمیر المؤمنین علی بن أبی


____________



(1) البدء والتاریخ ج5 ص136 و137..


(2) راجع: نهج البلاغة ج2 ص283..













الصفحة 181


طالب (علیه السلام) بین الصفین، ثم قال:


أما بعد.. أیتها العصابة التی أخرجتها عادة المراء والضلالة، وصدف بها عن الحق الهوى والزیغ، إنی نذیر لكم أن تصبحوا غداً صرعى بأكناف هذا النهر، أو بملطاط من الغائط، بلا بینةٍ من ربكم، ولا سلطان مبین.


ألم أنهكم عن هذه الحكومة، وأحذركموها، وأعلمكم أن طلب القوم لها دهن منهم، ومكیدة. فخالفتم أمری، وجانبتم الحزم فعصیتمونی، حتى أقررت بأن حكمت، وأخذت على الحكمین، فاستوثقت، وأمرتهما أن یحییا ما أحیا القرآن، ویمیتا ما أمات القرآن، فخالفاً أمری، وعملا بالهوى، ونحن على الأمر الأول، فأین تذهبون، وأین یتاه بكم».


ثم تذكر الروایة: أن خطیبهم طلب من علی (علیه السلام) أن یتوب من الكفر كما تابوا فقال علی (علیه السلام): أصابكم حاصب ولا بقی منكم وابر، أبعد إیمانی بالله، وجهادی فی سبیل الله، وهجرتی مع رسول الله (صلى الله علیه وآله) أقر بالكفر؟! لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدین، ولكن منیت بمعشر أخفّاء الهام سفهاء الأحلام، والله المستعان.


ثم حمل علیهم، فهزمهم(1) وسنتحدث عن بعض تفاصیل الحرب فیما یأتی


____________



(1) الموفقیات ص325 و327 والخطبة موجودة فی تاریخ الأمم والملوك ج4 ص62 وشرح نهج البلاغة للمعتزلی ج1 ص458 والإمامة والسیاسة ج1 ص109 والمستدرك على نهج البلاغة ص68 راجع الأخبار الطوال ص207 و208.













الصفحة 182


كیفیة إقرارهم بقتل ابن خباب:


وقد بادر أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلى انتزاع اعتراف من القتلة بما صدر عنهم، حیث یقول النص التاریخی: إنه (علیه السلام) قال: «الله أكبر، نادوهم: اخرجوا إلینا قاتل عبد الله بن خباب. قالوا: كلنا قتله، فناداهم ثلاثاً كل ذلك یقولون هذا القول»(1).


وفی نص آخر: أنه (علیه السلام) قال: «.. أیكم قتل عبد الله بن خباب بن الأرت وزوجته، وابنته، یظهر لی أقتله بهم، وأنصرف عهداً إلى مدة، حكم الله أنتظر فیكم؟


فنادوا: كلنا قتل ابن خباب، وزوجته، وابنته، وأشرك فی دمائهم.


فناداهم أمیر المؤمنین: إظهروا إلی كتائب، وشافهونی بذلك؛ فإنی أكره أن یقر به بعضكم فی الضوضاء، ولا یقر بعض ولا أعرف ذلك فی الضوضاء، ولا استحل قتل من لم یقر بقتل من أقر، لكم الأمان حتى ترجعوا إلى مراكزكم كما كنتم.


ففعلوا، وجعلوا كلما جاء كتیبة، سألهم عن ذلك؛ فإذا أقروا عزلهم ذات الیمین، حتى أتى على آخرهم.


ثم قال: إرجعوا إلى مراكزكم. فلما رجعوا ناداهم ثلاث مرات: رجعتم كما كنتم قبل الأمان من صفوفكم؟


فنادوا كلهم: نعم.


فالتفت إلى الناس؛ فقال: الله أكبر، الله أكبر، والله، لو أقر بقتلهم


____________



(1) تاریخ بغداد ج1 ص206.













الصفحة 183


أهل الدنیا، وأقدر على قتلهم لقتلتهم، شدوا علیهم، فأنا أول من شد علیهم.


وعزل بسیف رسول الله (صلى الله علیه وآله) ثلاث مرات، كل ذلك یسویه على ركبتیه من اعوجاجه. ثم شد الناس معه؛ فقتلوهم، فلم ینج منهم تمام عشرة ».


ثم تذكر الروایة: أنهم لما لم یجدوا ذا الثدیة قال: ائتونی بالبغلة؛ فإنها هادیة مهدیة، فركبها، ثم انطلق حتى وقف على قلیب الخ..(1).


علی (علیه السلام) یدعوهم إلى حكم المصحف:


وتذكر روایة جندب أنه (علیه السلام) بعد أن ردّ قول الذین أخبروه بأنهم قد عبروا النهروان.


بل فی بعض الروایات: أنه (علیه السلام) كان یقسم أنهم لم یعبروه، وأن مصارعهم دونه(2).. قد أخبر جندباً بأنه سوف یرسل إلیهم رجلاً یقرأ المصحف؛ فیدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبیه، ولكنهم سوف یقتلونه. وأنه لن یقتل من أصحابه (علیه السلام) عشرة، ولا ینجو منهم عشرة. قال جندب:


«.. فانتهینا إلى القوم، وهم فی معسكرهم الذی كانوا فیه، لم یبرحوا. فنادى علی فی أصحابه، فصفّهم. ثم أتى الصف من رأسه ذا إلى رأسه ذا، مرتین. ثم قال:


من یأخذ هذا المصحف، فیمشی به إلى هؤلاء القوم، فیدعوهم إلى


____________



(1) مناقب الإمام علی (علیه السلام)، لابن المغازلی ص413 و414. وفی هوامشه عن مصادر كثیرة أخرى فلتراجع، وقاموس الرجال ج5 ص436/437 عن أبی عبیدة وشرح النهج للمعتزلی ج2 ص282 عن أبی عبیدة.


(2) راجع: مروج الذهب ج2 ص405.













الصفحة 184


كتاب الله [ربهم]، وسنة نبیهم، وهو مقتول. وله الجنة؟!


فلم یجبه إلا شاب من بنی عامر بن صعصعة.


فقال له علی: خذ.


فأخذ المصحف [فقال له]: أما إنك مقتول، ولست مقبلاً علینا بوجهك حتى یرشقوك بالنبل.


فخرج الشاب بالمصحف إلى القوم، فلما دنا منهم حیث یسمعون قاموا، ونشبوا الفتى قبل أن یرجع [قال] فرماه إنسان؛ فأقبل علینا بوجهه، فقعد.


فقال علی: دونكم القوم.


قال جندب: فقتلت بكفی هذه [بعد ما دخلنی ما كان دخلنی] ثمانیة قبل أن أصلی الظهر. وما قتل منا عشرة، وما نجا منهم عشرة، كما قال»(1).


تأثیر نهج علی (علیه السلام) فی «الخوارج»:


إن أهل العراق لم یعرفوا علیاً إلا لمدة وجیزة كانت ملیئة بالحروب والمآسی، مشحونة بالكوارث على مختلف المستویات، والاتجاهات.


وكان العراقیون یعیشون أجواء الحرب والقتال منذ عهد عمر بن الخطاب، الذی جعل العراق منطلقاً لحملاته العسكریة فی فتوحات بلاد فارس، وسائر المناطق الشرقیة..


____________



(1) راجع: كنز العمال ج11 ص276 عن الطیالسی، مجمع الزوائد ج6 ص241 و242 عن الطبرانی فی الأوسط. وذكره أیضاً فی منتخب كنز العمال. مطبوع مع مسند أحمد..













الصفحة 185


وقد تحدثنا عن الحالات التی كان العراقیون یعیشونها قبل عهد أمیر المؤمنین علی (علیه السلام)..


وكان لوجود أمیر المؤمنین فیما بین أظهر العراقیین تلك الفترة الوجیزة، برغم كل ما واجهه من انشغالات وصوارف أثر فی عقلیتهم وثقافتهم، ثم فی حالاتهم الإیمانیة. وحتى فی وعیهم السیاسی والدینی، وفی مختلف شؤونهم..


حتى إنه (علیه السلام) لیقول لأهل العراق: «ركزت فیكم رایة الإیمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام»(1).


بل إن معاویة حینما واجه عكرشة بنت الأطرش، لم یجد مناصاً من الاعتراف بتأثیر أمیر المؤمنیین (علیه السلام) فی أهل العراق حیث قال ـ كما تقدم ـ: «هیهات یا أهل العراق نبهكم علی بن أبی طالب فلن تطاقوا»(2).


علی (علیه السلام) لا یبدؤهم بالقتال:


وكما كان رسول الله (صلى الله علیه وآله) لا یبدأ أحداً بقتال.. كان علی كذلك، ولم یكن موقفه من «الخوارج»، إلا امتداداً لهذه السیاسة.. فقد قال علی (علیه السلام) لأصحابه:


«كفوا عن الخوارج حتى یبدؤوكم»(3).


____________



(1) نهج البلاغة ج1 ص168 بشرح عبده. المطبعة الرحمانیة بمصر.


(2) العقد الفرید ج2 ص112 وبلاغات النساء ص104 ـ ط سنة 1972م وصبح الأعشى..


(3) أنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص371 ونور الأبصار ص102 والبدایة والنهایة ج7 ص289 وشرح نهج البلاغة للمعتزلی ج2 ص271 و272 وغیر ذلك من


=>













الصفحة 186


وقد كانت هذه السیاسة معروفة عنه (علیه السلام)، وقد أخذها عنه شیعته الأبرار أیضاً(1). فكانت البدأة بالقتال تأتی من قبل محاربیه (علیه السلام) ومنهم «الخوارج» فی مختلف المواطن.


ومن المضحك المبكی: أن نجد فی أتباع الخط الأموی من یحاول ـ أحیاناً ـ أن یقلد أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی هذه الناحیة، فقد «كان المهلب یقول لبنیه: لا تبدأوا «الخوارج» بقتال حتى یبدؤوكم، ویبغوا علیكم، فإنهم إذا بغوا علیكم نصرتم علیهم»(2).


والأدهى والأمر أننا نجد حتى «الخوارج» الذین كان دینهم الإجرام والقسوة إلى درجة ذبح الأطفال، وبقر بطون النساء، والغارات التی لا ترحم.. ـ نجد ـ: أنهم فی بعض الأحیان تصدر منهم أفعال تأثروا فیها بما أشاعه (علیه السلام) فی الناس.. ومنها عدم البدء بالقتال؛ فإن أبا حمزة الخارجی حین التقى بمحاربیه فی قدید، قال لأصحابه: «كفوا عنهم ولا تقاتلوهم حتى یبدؤوكم بالقتال، فواقفوهم، ولم یقاتلوهم، فرمى رجل الخ..»(3).


لا تتبعوا مولیاً:


وكان من سیرة علی (علیه السلام) أن یأمر أصحابه: أن لا یتبعوا مولیاً، ولا یجهزوا على جریح.. وقد أمرهم فی النهروان أیضاً بأن لا یتبعوا


____________



<=


مصادر ستأتی فی فقرة تفاصیل منسقة..


(1) البرصان والعرجان ص333.


(2) شرح نهج البلاغة ج4 ص196 والكامل فی الأدب ج3 ص381..


(3) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج5 ص112 وراجع: العقود الفضیة ص203.













الصفحة 187


مولیاً(1).


فقلده أبو حمزة الخارجی مع محاربیه فی قدید أیضاً، فإنه لم یسمح باتباع المدبر، ولا بالإجهاز على جریح حین طلب منه ذلك، وقال: «لا أخالف سیرة أسلافنا»(2).


مع أن سیرة أسلافه كانت ضد ذلك، كما هو معلوم.


إقامة الحجة أولاً:


وكان علی (علیه السلام) لا یقاتل أحداً حتى «الخوارج» إلا بعد أن یقیم علیه الحجة، وكذلك قال أبو حمزة الخارجی لأصحابه، حین التقى بابن عطیة: «لا تقاتلوهم حتى تختبروهم، فصاحوا، فقالوا: یا أهل الشام، ما تقولون فی القرآن والعمل؟ الخ..»(3).


____________



(1) تاریخ بغداد ج1 ص160.


(2) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج5 ص112.


(3) المصدر السابق ج5 ص123.













الصفحة 188












الصفحة 189